بداية أقول بان التلمذة أمر اختياري للإنسان مثلها مثل خطوة الإيمان، فليس الأمر قسرا على حياة المؤمن لكنه قراراً طوعياً من قلب مثقل بمشيئة الله ، ومن قلب محمل بالمحبة للبشر لكي ما تصلهم الأخبار السارة عن محبة الله لهم وترتيب عمل خلاصهم .
ومع أنها أمر اختياري لكنها أيضا طريقا يبتدء بقرار ويستمر بطاعة كاملة لمشيئة الله ، فحتى إن اصطدمت الإرادة البشرية مع المشورة الإلهية يجب أن تخضع وتنفذ وتسير في هذا الطريق حتى في عدم الشعور بالرغبة لذلك أو حتى عند عدم الاقتناع في بعض المراحل من هذا الدرب ، فالموضوع أشبه بتجند إنسان طوعينا في الجيش لخدمة بلده ، فلا يمكن لمثل هذا الإنسان بعد أن اتخذ مثل هذا القرار أن يعترض على أوامر قواده ويرفض الخضوع لبعض القرارات التي لا تناسب رأيه أو تفكيره .
لذلك شبه المسيح حياة التلمذة بملك محارب قرر أن يخوض معركة مع ملك آخر ، فكان عليه أولا أن يحسب الموضوع بدقة شديدة والا فالخسارة أمر لا محال .هكذا أيضا التلمذة امر طوعي لكنها في ذات الوقت امر يتطلب الخضوع والطاعة للمشيئة اللاهية دون البشرية .
وتكملة للذي ابتدأناه مؤخرا في سلسلة ( على طريق التلمذة ) نكمل في هذا الموضوع ( شروط التلمذة ) منطلقين من قول المسيح : " إن أراد احد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني "
تكلمنا في الماضي عن معنى نكران النفس وقلنا بأنه يعني أن تموت النفس عن الخطيئة وعن أركان العالم وعن دائرة الذات ( الأنا ) ، وتكملة لشرط التلمذة الأول الذي هو في نكران النفس يأتي الشرط الثاني الذي هو حمل الصليب .
ما معنى الصليب في حياة التلمذة ؟
تكريس الحياة للخدمة
الصليب أداة كانت تستخدم في إيقاع العقاب بالمجرمين في ذلك الوقت ، هذا ما كان ظاهرا من الجهة البشرية ، أما من الناحية الإلهية فقد كان يعني تحقيقا لخطة الله للخلاص .
حياة المسيح كانت صورة عظيمة قدوة لبني البشر ، وتعاليمه كانت المثل والقيم السامية التي أرادها الله واشتاق لها ضمير الإنسان ، ومعجزاته كانت التعبير الواضح على قوة الله وسلطانه من جهة وعلى حبه واهتمامه لمعانات الإنسان من جهة أخرى ، لكن الأهم في حياة المسيح من كل ما فعله من معجزات ومن كل العظات التي نطق بها هو تحقيقه مشيئة الله بالكامل في حمل الصليب ، فهو جاء لفعل غرض واحد ومحدد وهو أن يفدي الإنسان وذلك بالصليب . فماذا يعني أن احمل أنا الصليب ؟
هذا لا يعني بالطبع أن اذهب لأصلب على
خشبة ، و لا يعني أيضا أن اتمم بحملي للصليب خلاص الله حاشا، لكنه يعني أن اتمم خطة الله في ما قدمه المسيح على الصليب .
اعتاد يسوع أن يشرك البشر في عمله ، فعندما أقام اليعازر من القبر طلب أولا من الجموع أن يرفعوا الحجر من على القبر وبعد ذلك طلب منهم أن ينزعوا الاقمطة من على جسده ،وعندما أراد يسوع ان يطعم الجموع سأل تلاميذه أولا هل يوجد شيء يقدم لهذه الجموع الجائعة ،فرضي بسمكتين وخمس خبزات وصنع منها الوليمة العجيبة التي ملأت بطون آلاف ، وهو يسير في درب الصليب ، الدرب الذي أتى من أجل ان يسير فيه ، الطريق الذي كان الهدف الوحيد الذي ثبت نظره نحوه حتى أنجزه تماما ، وفي هذا الطريق قبل المساعدة من سمعان القيرواني في حمل الصليب .
ماذا يعني هذا ؟ هل عجز المسيح عن أن يرفع الحجر على قبر اليعازر ليقيمه من الموت ؟ هل عجز عن أن يطعم الجموع من دون القليل الذي قدم له ؟ هل عجز عن أن يحمل خطايا العالم على الصليب فرافقه القيرواني طريقه ؟
والجواب كلا . بل إن مبدأ الله في تعامله مع البشر هو إشراكهم معه في عمله ، فما نراه من حياته ومعجزاته وحتى في صليبه هو إشراك للإنسان في ما لله .
فلهذا لم يقل في شرط التلمذة هنا بأن يحمل الإنسان صليبي ، بل قال صليبه ، أي ان الصليب هذا لم يعد فقط قضية ابن الله الذي أتى من اجلها ، بل انه قضية كل إنسان أراد أن يتبع المسيح ويحقق مشيئة الله على الأرض .
لكن دعني أقول لك أمرا مهما ألا وهو انه في اللحظة التي تأخذ بها قضية المسيح على كتفك هو يقوم بالتالي بأخذ قضيتك على كتفه .
هي عملية مبادلة للقضايا ، أنت تحمل كاهلك بصليب ( مشيئة الله ) وهو يرفع ليس قضيتك فحسب بل وكل حياتك على منكبيه .
بغض النظر عن مركز ومكانتك وقدراتك وشأنك في ما يختص بقضيتك على هذه الأرض ، فأنت تحمل أعظم رسالة سماوية في داخلك . فهل تريد من قلبك أن يعتلي كاهلك طوعا بهذا النير ، ليس كما حدث قسرا مع العبد سمعان القيرواني لكن حبا وطوعا للسيد الذي اعتلى الصليب واخذ العار والقصاص بدلا عنك ؟
حياة الاتضاع
الصليب حياة ، ولكي يحمل المسيح الصليب تطلب منه أن يتخذ حياة الاتضاع ، في الصليب رأينا الله بشكل آخر وأدركناه بطريقة مختلفة ، رأينا حكمته ليس في خلقه للوجود بتنظيم معقد ، لكن في حكمته باسترداد ما قد هلك وما قد قارب على الفناء ، رأينا قوته وسلطانه ليس في قدرته على استمرار الكون ، لكن في قوته وقدرته على أن يحارب الشر بالخير وينتصر ، رأينا حبه ليس كما اعتادت عقولنا عن أن تفهم
معاني الحب ، لكن في حب ليس له نهاية أوله اتضاع واخره موت وتضحية في سبيل من أكن له العداء والبغض .
نعم حياة الصليب كانت وجها آخر لكل المفاهيم التي أدركها الإنسان عن الله قبل ذلك ، فها هو الله في هيئة إنسان ، ويمكن أن تكتب مجلدات وتخصص مكتبات عن هذا الاتضاع العجيب لكنني هنا اختصر الكلام بهذه الآيات المقدسة " الذي اذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة ان يكون معادلا لله ، لكنه اخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس ، وإذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " ( فيلبي 2 : 6 ، 8 ) .
حياة الصليب حياة صعبة ، لأنها حياة تاخذ صورة اتضاع ،وهذا ما يعارض طبيعة الانسان في ابتعاده عن كل ما يبدو ضعيفا وقليلا ومحتقرا .
وقت ما تكلم المسيح بهذه الأقوال لم يكون التلاميذ في الحقيقة يعلمون ماذا سيحدث بالتحديد مع معلمهم ولكنهم كانوا يعلمون بان الصليب كان أصعب العقوبات عند الرومان، فالمسيح أراد أن يوضح لهم أن ثمن تبعيته صعب جدا ويتطلب اتخاذ طريق الطاعة والخضوع والاتضاع .
كم كان هذا غريبا من هذا المعلم ، فبدل ان يسهل الطريق لمن أرادوا أن يتبعوه ، وهو ما فعله كل دين وفكر بشري ،وعد تلاميذه بالباب الضيق وبالطريق الصعب ،فان أراد احد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني . |